عندما كنت أعد نفسي للذهاب إلى ليبيا، كانت الأخبار التي تأتي من ليبيا محبطة للغاية: مساعدات وعلاقات الغرب بالثوار، عدم صدور تأشيرات للإيرانيين وظهور الصهيوني المعروف "هنرى برنارد ليفي" بين الثوار وغيرها من الأمور.


وفي الساعات الأولى من تواجدي في ليبيا، كان الجو العام أكثر احباطا، وخاصة عندما رأيت أعلام فرانسة، انجلترا، ايطاليا، تركية وقطر ترتفع فوق أرض مدينة "بنغازي".


لكن بعد مرور 42 يوماً على تواجدي في ليبيا والحياة بين أهلها، وبعد 50 ساعة من الحوار مع أكثر من 25 ناشطاً سياسياً من مختلف التوجهات والأطياف السياسية، أدركت أنه من الخطأ الحكم على الأمور بهذه الطريقة، وأنه لكي يتم فهم الثورة الليبية، يجب البدء في البحث من نقطة زمنية تسبق هذا التوقيت بكثير.



تحتل ليبيا المركز العاشر بين الدول النفطية على مستوى العالم، وهي تتمتع بأهمية كبيرة ومكانة استراتيجية عالية نظراً لموقعها في جنوب أروبا وجوارها لمدن مصر، السودان والجزائر في شمال أفريقيا، ونظراً كذلك لساحلها الممتد لألفين كيلومتر جنوب البحر المتوسط.


يبلغ عدد سكان ليبيا حوالي 6 ملاين نسمة، يدينون جميعهم تقريباً بالدين الإسلامي، أما العدد المحدود من اليهود الذين كانوا يعيشون هناك فقد تم اخراجهم من ليبيا بعد سقوط القذافي. يعتقد بعض المؤرخين أن ثلثي الشعب الليبي هم من أحفاد رسول الله (صلعم)، وأنهم أسياد على حد قول الإيرانيين. هناك أكثر من مليون شخص في ليبيا يحفظون القرآن الكريم، أي أن سدس الشعب الليبي من حفظة القرآن. تم وضع أساس تحفيظ القرآن على أيدي "السلطان إدريس السنوسي" أول حاكم ليبي بعد الاستقلال، ذلك الحاكم الذي غلب على المجتمع الليبي في ظل حكمه الطابع الإسلامي، ويذكر الشعب عصره بالخير، إلا أن أهم نقطة ضعف للسلطان إدريس السنوسي كانت علاقته بالأمريكان، وهو الأمر الذي إدى إلى سقوطه كذلك. لقد كانت أكبر قاعدة أمريكية خارج أمريكا في ذلك الوقت موجودة في ليبيا، وقد وصل "معمر القذافي" للحكم راكباً موجة القومية العربية التي دفع بها الناصريون، ورافعاً شعارات ضد أمريكا. قام القذافي بطرد الأمريكان من ليبيا، وكان يحتفل بهذا اليوم من كل عام حيث كان يظهر نفسه بمظهر المناضل ضد الاستعمار. يعتقد البعض أن القذافي كان يعيش على حلم زعامة العرب، العالم الإسلامي وأفريقيا، إلا أننا بالنظر إلى أفعاله نصل إلى هذه النقطة وهي أنه كان يحمل في رأسه حلم زعامة العالم. لذلك فنحن نلاحظ أن أكثر الأبنية التي كان يبنيها، كان ينحت عليها صورة للكرة الأرضية باللون الأخضر. (كان اللون الأخضر رمز القذافي)


كانت نتيجة هذا الوهم الذي عاش فيه القذافي أنه أولاً اعتبر أن العدو الأكبر بالنسبة له هي أمريكا والغرب، كما أنه كان يقدم المساعدات المالية والعسكرية للكثير من الحركات المطالبة بالحرية رغبة منه في السيطرة على زعامة النضال ضد الاستعمار. ثانياً، كان القذافي يعتبر كل منافس له أو كل من يعتقد أنه يعلوه مكانة، عدواً شخصياً له، فبدأ باعتقال واعدام حلفائه الذين ساعدوه في الوصول إلى الحكم، ووصل به الأمر إلى قتل بعض العلماء الذين خالفوا طريقة فهمه وتفسيره للدين. ثالثاً أنه كان يسعى لتخطيط برنامج يدفع به الشعب إلى عدم التفكير في شئ سوى تقديسه، لذلك كان يحاول من خلال الحيل المختلفة أن يحول دون التطور الفكري للشعب. على سبيل المثال، كان خروج الشعب الليبي خارج الدولة ودخول الأجانب إلى ليبيا في نطاق محدود للغاية، ويخضع لرقابة مشددة. كان الإعلام حكراً على القذافي، وكان نشر أي خبر أجنبي داخل الدولة مرهون بإذن منه.


لم يكن هناك دستور في ليبيا في عصر القذافي، وكان "الكتاب الأخضر" هو أساس إدارة المجتمع، ذلك الكتاب الغامض الذي لا يفهم أحد حتى الأن ماذا كتب فيه. يعتقد البعض بالتأكيد أن هذا الكتاب قد كتب بشكل غامض ومبهم عمداً، حتى يفسره القذافي في كل يوم بشكل مختلف.


 إننا نرى في عصر القذافي أنه كان يتم اتخاذ قرار في يوم بإعدام شخص في الثامنة عشر من عمره مسجون دون محاكمة، وصباح ذلك اليوم كان يتم اتخاذ قرار باطلاق صراح شخص عمره 31 عاماً ينتظر حكم الإعدام وتعويضه. في يوم أخر يتم اتخاذ قرار بتنفيذ مشروعات عمرانية في بلد ما في أفريقيا، واليوم التالي، كان يجب ترك المشروع قبل اكتماله، حتى تعود المعدات إلى الدولة. في يوم يتم الإعلان عن حظر النشاط الاجتماعي للمرأة، وفي اليوم التالي يتم الإعلان عن تولي "هدى بن عامر" حقيبة وزارية، في يوم يتم اتخاذ قرار بتكريم حفظة القرآن، وفي اليوم التالي كان القذافي ينتقد القرآن ويقول: "يجب حذف كلمة قل من سورة التوحيد". لقد كان القذافي نموذجاً بارزاً لشخص متقلب المزاج.


كان القذافي يعمل بقبضة من حديد في مجال السياسة الداخلية، فلم يتوقف الأمر عند مجرد اكتشافه لـ 300 حركة انقلابية واحباطهم جميعاً، أو أنه أباد 1270 شخص دفعة واحدة في سجن "أبو سليم"، لكنه كان يقضي على أي شخص يحتمل أن يقوم في يوم من الأيام بمعارضته. إن إحدى جرائم القذافي التي لاتزال ذكراها المرة عالقة في أذهان الشعب الليبي، هي اعدامه الطلاب المعارضين له في شهر رمضان الكريم وفي لحظة الافطار بأبشع الطرق الممكنة على أيدي "هدى بن عامر" ونشر الأفلام التي توضح لحظات الأعدام.


بعد أحداث لوكربي التي تعد دليلاً أخراً على تطرف القذافي، وبعد ضغوط الغرب وضرب طرابلس بواسطة الأمريكان، اضطر القذافي إلى تخليه عن وجهه الثوري، وتسوية الأمر مع الأمريكان. كذلك الأمر بعد اعدام صدام الذي كان القذافي يرى الخطر المحيط به مسبقاً، فقد كان يثير ضجيجاً ويعطي الوعود لشعبه بالقيام باصلاحات في جميع المجالات، وكان سيف الإسلام أبن القذافي هو حامل لواء هذه الاصلاحات.


كانت أهم الأعمال التي تم انجازها في هذه المرحلة هي اطلاق صراح المسجونين السياسيين الذين تم حبسهم لمدة طويلة.


إن أهم الجماعات المعارضة للقذافي والتي ثارت ضده ثورة مسلحة استمرت أربعين عاماً هي "الجمعية الإسلامية المقاتلة"، وهي جماعة تقترب في فكرها من أفكار تنظيم القاعدة الذي حارب مع الأمريكان في أفغانستان وباكستان، إلا أنهم تخلوا على سلاحهم بعد التفاوض مع الشيخ "على الصلابي" أحد زعماء المعارضة الرئيسيين. لكن القذافي ينسى كل شئ بعد أقل من عام واحد، ويعود الأمر إلى ما كان عليه من قبل.


في نهاية الأمر، تلوثت يد القذافي بدماء 1270 شهيد كانوا مسجونين في سجن "أبو سليم". كانت أسر الشهداء تجتمع كل فترة لتحديد مصير مسجونيهم ومحاكمة المتسببين في مذبحة أبو سليم، وبعد الثورة التونيسية، بدؤا في الاحتجاج في مدينة بنغازي، إلا أن القذافي قد تعامل معهم بأسوء الأشكال الممكنة، وقد تسبب ذلك الأمر في غضب الشعب، حتى انفجر غضب الشعب مرة واحدة وبدؤا ثورة مسلحة ضد القذافي في مدن بنغازي، الزاوية وزنتان. ركب العلماء بزعامة الشيخ "صادق الغرياني" موجة الثورة، واصدروا فتوى الجهاد. كان قرار الشعب هو سقوط حكم القذاقي بأي شكل ممكن، لكن عدم ثقتهم بأنفسهم جعلهم يلجأون إلى الغرب، حيث أنهم كان يعلمون بأن الهزيمة تعني مذبحة جماعية لهم. من ناحية أخرى، كان الغرب يشعرون بالصدمة لما حدث من تغييرات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الأمر الذي جعلهم يصرون على ألا تخرج الثورة الليبية عن نطاق معادلاتهم. لذلك فقد أتوا لمساعدة الثوار، واستهدفوا جيش القذافي بضربة جوية. جعل الغرب من الصهيوني جزائري الأصل ذي الجنسية الفرنسية "هنري برنارد ليفي" وسيطاً بينهم وببين الثوار. لقد تسبب حضور "ليفي" وهو أحد مستشاري "نتنياهو" في ازدياد شائعات انعقاد اتفاقيات سرية بين "المجلس الانتقالي الليبي" والكيان الصهيوني. كان الغرب يعملون بذكاء حاد، ولم يستهدفوا في ضربتهم سوى مقرات القذافي. فقليلاً ما ورد أخبار عن ضربات من قبل الغرب دون أهداف محددة، وذلك حتى لا يقتل أحد من أفراد الشعب أو أن يتم تخريب أحد المنشآت الليبية، فهم لم يرغبوا أن يستقر في أذهان الشعب ذكريات سيئة عنهم. لقد أرادوا جلب قوات برية إلى ليبيا، حتى تتصدى لمعارضي الثوار. لكنهم قد منحوا تركية وقطر دوراً في الثورة الليبية، وقد أدى هذا إلى نتيجتين مهمتين، أولاً أنهم أقحموا في الحرب دولتين مسلمتين في ظاهرهما، وذلك تحسباً لمطالبة الشعب في المستقبل بتكوين حكومة إسلامية، فيكون الشعب في هذه الحالة مدفوعاً لاختيار أحد هاذين النموذجين. ثانياً الاستفادة إلى أقصى درجة من أموال وامكانات هاذين البلدين. لقد ارتكبوا بالتأكيد أخطاء فاحشة فضحت وجههم الحقيقي أمام الملأ. كان أهم هذه الأحداث هي ترك الثوار بمفردهم قبل فتح طرابلس. لقد قطع الناتو مساعداته المسلحة للثوار بشكل مفاجئ، ولم يسمح لهم كذلك بشراء الأسلحة من مصادر أخرى، وأبلغوا الثوار بضرورة حل مشكلاتهم مع القذافي من خلال المفاوضات. لم يكن الغرب يعلمون أن الثوار على استعداد للموت هم وجميع أفراد أسرهم، وأنهم ليسوا على استعداد للجلوس مع القذافي على طاولة واحدة للتفاوض. لقد قرر الثوار الاستمرار في نضالهم دون دعم من الناتو. اضطر الناتو كذلك إلى الاستمرار في حماية الثوار بعد عودة أوراق اللعبة إلى مصلحة الثوار من جديد، وفي النهاية انتصرت الثورة بفضل الله وبإرادة وعمل الشعب الليبي.


لقد انفرط عقد ذلك المطاط الذي ظل القذافي يضغط فيه لسنوات، ومن الطبيعي أن يستطيع كل من يبذل جهداً أن يجذب ذلك المطاط لجانبه. يمكن مقارنة ليبيا اليوم بلبنان منذ ثلاثين عاماً. إن البرنامج الذي أعده الغرب لليبيا بعد الثورة لم يتم تنفيذه بشكل كامل. لقد رغب الغرب في أن يتولى محمود جبرائيل رئاسة الوزراء، حتى يبسط نفوذ جماعته في المناطق الحساسة وتنشط المجموعات اليهودية في طرابلس، ويتم اقرار العلاقات السياسية-التجارية بين ليبيا والكيان الصهيوني بشكل تدريجي. لكن جبرائيل وجماعته لم يستطيعوا السيطرة على الحكومة، وواجه اليهود الذين أرادوا اعادة فتح معبدهم معاملة شديدة القسوة من قبل الشعب الليبي حتى اضطروا إلى تركه.


من بين العقبات الأخرى التي وجدت بين الغرب وليبيا، يمكن الاشارة إلى شيئين: الأول جهود الغرب من أجل السيطرة على الاقتصاد والمصادر المالية في ليبيا، والثاني المواقف الليبية المعادية للكيان الصهيوني والتي تتضح اليوم في أحاديث العامة والمسئولين، حتى أنها كتبت على الحوائط في المدن المختلفة. يمكن القول بكل جرأة أن إحدى القضايا التي يجمع عليها الشعب الليبي، هي الدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم.


لا تعني النقاط التي تم طرحها في السابق أن الغرب يقدم على تقديم مشروع جديد في كل لحظة للسيطرة على ليبيا، حيث أن الشعب الليبي ليس لديه تجربة سياسية، ومن السهل أن يقع تحت تأثير الأحداث المختلفة. بالإضافة إلى أنه من غير المعلوم ما هي النظرية التي يرغب الإسلاميون في إدارة الدولة من خلالها.


فيما يلي بعض طلبات الشعب الليبي التي تعرفنا عليها من خلال رحلتنا إلى هذا البلد:

1-   جلسات مشتركة للاتحادات النسائية والتي أصبح المجال متاح لها الأن بشكل كبير

2-  عقد محاضرات في العمل الصحفي، التصوير والبدء في التواصل مع الصحف ودعمها (توضيح: أدت سياسات القذافي إلى فقدان وسائل الإعلام إلى العناصر المهنية، إلا أن عدد الصحف والقنوات في ليبيا في تزايد مستمر، ومن خلال تقديم المساعدات لها، يمكن خلق خطاً موازياً للسياسات المناهضة للغرب)

3-  خلق سبل للتواصل مع التجار وتشجيع التجار والمتعهدين الداخليين بتصدير البضائع إلى ليبيا، وعقد مقاولات للإنشاءات (والتي يبدو أنها حكراً على تركية)

4-    أهداف تكنولوجية (كانت تنفذ في السنوات القليلة الماضية من خلال رئاسة الجمهورية في الدول الإسلامية)

5-  إهداء الأفلام والمسلسلات الإيرانية إلى القنوات الليبية والإشراف على بثها بشكل متتابع. (إن احتمال مشاهدة قناة Ifilm ضعيف جداً بسبب كثرة عدد القنوات العربية، وبالتأكيد يمكن خلق رغبة لدى الشعب الليبي في مشاهدة القنوات الإيرانية تدريجياً من خلال بث هذه المسلسلات في القنوات المحلية)

6-   مؤتمرات التقريب بين المذاهب وحوار الأديان بين العلماء

7-   عقد جلسات بين الاتحادات الطلابية ومنظمات الشباب غير الحكومية

8-   دعوة أسر الشهداء لزيارة إيران

9-   دعوة المسجونين السياسيين لزيارة إيران

10- قبول الطلاب للدراسة في إيران